محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

دنقلا .. أقدم واهم المراكز الريادية للانبعاث السناري

دنقلا
أقدم واهم المراكز الريادية للانبعاث السناري في سودان وادي النيل (1504 ـ 1821)م


فاتحة:
هناك رافدان لحركة الانبعاث السناري:
الأول: وتمثل في نهوض مراكز إسلامية في أطراف بلاد النوبة ومداخلها التي كانت بؤراً لإشعاع الثقافي لمناطق الداخل. وقد جذبت إليها أعدادا كبيرة من سكان الدواخل في حالة تفاعل يومي مع حركة المجتمعات الإسلامية الجديدة، واهم هذه المراكز هي المدن الساحلية مثل: زبلع وسواكن وعيزاب ومدن الدواخل مثل : دنقلا واربجي ، إيس (الكوة) كترانج، بربر ، الحلفاية.
ولقد قامت هذه المدن بدور هام في التماسك لاجتماعي والأمني وأنجبت صفوة جديدة أسهمت في تجاوز الحدود العرقية والاجتماعية، كما أسهمت العقلية الجديدة في بناء مجتمع ذابت فيه حدة العصيان والأعراف تحت رأية لا اله إلا الله محمد رسول الله وأصبحت بعض المدن كالدامر في القرن الثامن العشر على مذهب واحد وطريقة واحدة وعقلية واحدة.
الثاني: وتمثل في حركة الرجال الأفذاذ الذين مهدوا لقيام مملكة سنار بالتحضير الفكري والروحي والثقافي وخير ممثل لهذا الجيل من الجهابذة الفقيه غلام الله بن عائد والشيخ أبو دنانة والشيخ محمود العركي. وقد قام على جهود هذا الجيل، جيل آخر يتمثل في أولاد جابر والشيخ إدريس ود الأرباب وفرح ود تكتوك وحسن ود حسونة وأرباب العقائد.. الخ. هذا وتعتبر مدينة دنقلا خير نموذج للرافد الأول، بينما يقف غلام الله وذريته في مقدمة العلماء الذين اثروا الرافد الثاني.
دنقلا رائد التنوير:
برزت دنقلا كأهم مركز للتكييف الإسلامي، إذ فيها انشيء أول مسجد على عهد عبد الله بن أبي السرح (21هـ) أو قبل ذلك، أي بعد اقل من عشر سنوات على وفاة النبي (ص)، فهي بذلك حازت شرف كونها أول مكان عبد فيه الله سبحانه وتعالى في السودان وفق شرائع الإسلام، وبحلول عام 316هـ تم القضاء على آخر ملوك دنقلا المسيحيين (الملك كوني)، وقد جاء التحول الإسلامي في وقت ورثت فيه مصر عظمة بغداد الثقافية بعد أن أطاح بها التتر عام 656هـ ما يفسر جزئيا اشتداد حركة الإسلام في السودان. وكما ورد فان شهرة دنقلا قد طارت في الآفاق فقال عنها ابن خلدون في مقدمته: (وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلا، وهي شرق النيل وبعدها علوة) ووصفها احد الرحالة قائلاً : "وجد بلدة تدعى دنقلا وهي مأهولة بشكل طيب للغاية وتضم حوالي عشرة آلاف أسرة ولكن بيوتها قبيحة ومبنية بأعمدة رفيعة من الطين. والسكان أغنياء متحضرون لأنهم يزاولون في القاهرة، وفي كل مدن مصر، تجارة الأقمشة والأسلحة وسائر البضائع الأخرى".
والشاهد أن أهل دنقلا تفاعلوا مع سكان مصر منذ القرن الخامس عشر، واخذوا الحضارة الإسلامية وزاولوا التجارة، بما يفيد أن دنقلا قد انصهرت في بوتقة الحضارة الإسلامية نتيجة لاحتكاك دنقلا بالعباسيين والفاطميين والمماليك وغيرهم مما فرض عليها دور نقل وامتصاص الحضارة الغالبة لان المغلوب مولع بتقليد غالبه، كما أن الدعاة الإسلاميين اخذوا في الهجرة إلى دنقلا منذ زمن بعيد، فقد ذكر أن الخليفة هارون الرشيد (170 ـ 193)هـ أرسل سبعة من علماء الدولة العباسية فوصلوا دنقلا وأقاموا بها وتناسلت منهم ذراري كثيرة، وما تزال أراضي دنقلا الغدار عامرة بقبور إعداد فمن يحسبون من صالحي البديرية والركابية والجابرية، الذين أسهموا في نشر تعاليم الدين الإسلامي.
رواد التنوير:
غلام الله بن عائد وأحفاده (أولاد جابر):
وأساس هذه المدرسة التنويرية وابعد العلماء الذين استقروا في دنقلا تأثيراً هو غلام الله بن عائد وقد بدا جهاده العلمي قبل قيام دولة سنار وآية ذلك انه وصل في النصف الثاني من القرن الرابع عشر لدنقلا من جزيرة العرب عبر اليمن وزبلع، مدفوعاً بأشواق نشر الإسلام في ارض النوبة بعد أن وصلته أخبار إقبال أهلها على اعتناق الإسلام. استقر غلام الله في دنقلا واتخذ منها مركزاً لبث دعوته ونشاطه العلمي والروحي ثم دخل هذا النشاط مرحلة كبرى بظهور أحفاده المشهورين بأولاد جابر الذين أرسو قاعدة رسالتهم في دار الشايقية.
وقد كان لهذه العائلة دور كبير في بسط تعاليم الدين الإسلامي في السودان في ظل المملكة السنارية. ويمكن أن نستعين برسم تقريبي لشجرة هذه العائلة لتوضيح أثرها ودورها في نشر حركة الثقافة الإسلامية في السودان.
وكما في الرسم فان غلام الله قد أنجب رباط وركاب، وتناسلت ذرية هذا الأخير لتمنح أهل السودان السادة الركابية وهم ذرية خير وبركة، وما تزال طائفة من أهل البيت تقوم على خدمة الإسلام. أما ابنه الآخر رباط فقد ظهرت بركته في ابنه دهمش وحفيده عون، أما دهمش فيعتبر والد فرع من البديرية وهم الدهمشية الذين يقال أن نصف أولياء السودان ينحدرون من أصلابهم، وما تزال قبابهم في (دبة الفقراء) (هي الآن قرية صغيرة غرب النيل وجنوب مدينة الدبة في محافظة مروي) وعلى امتداد السودان تشهد بذلك، وأشهر رواد هذه العائلة آل إسماعيل الولي (الأزهري) وال الترابي والغبش وآل الشيخ الجعلي وغيرهم من رواد الحركة الإسلامية السودانية. أما حفيده عون، فقد جاء بأولاد جابر الأربعة وهم: إبراهيم وإسماعيل وعبد الرحمن وعبد الرحيم وأختهم فاطمة وقد وصفهم ود ضيف الله بأنهم كالطبائع الأربعة: أعلمهم إبراهيم وأصلحهم عبد الرحمن وأورعهم إسماعيل وأعبدهم عبد الرحيم . وقد درس هؤلاء الإخوة في الأزهر الشريف على مراحل مختلفة ثم عادوا ليرعوا الحركة العلمية في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري. ويعتبر إبراهيم أول من درس مختصر خليل ببلاد الفونج، ومختصر خليل لا يدرسه إلا المتقدمون في المذهب المالكي لأنه كتاب صعب اللغة ويحتاج ممن يريد فهمه أو تدريسه أن يكون ملماً بمقدمات الفقه المالكي. كما أسس إبراهيم مركزاً علمياً في جزيرة ترنج أحد جزر الشايقية وصار قبلة للطلاب وتمثل غرسه في أربعين تلميذاً أبرزهم أخوه عبد الرحمن بن جابر المؤسس الثاني لمدرسة أولاد جابر، وقد انشأ ثلاثة مراكز علمية، أي مساجد في دار الشايقية وكورتي والدفار. وكان يقضي في كل مسجد أربعة أشهر يقوم بالتدريس فيه. ومن أشهر تلاميذه عبد الله بن دفع الله العركي الذي صحبه سبع سنوات وعاد مصحوباً بأربعة من تلاميذ مدرسة أولاد جابر ليؤسس مدرسة العركيين في منطقة الجزيرة أما إسماعيل أورعهم فقد كان حريصا على تطبيق دقائق فقه المال المغصوب، فكان لا يستعمل الماء الذي يجري في جداول سواقي الشايقية لأنه كان يعتقد بأنه ماء محرم لان الشايقية درجوا على اخذ ثيران غيرهم بالقوة ثم يستخدمون تلك الثيران في سواقيهم.
أما فاطمة فقد كانت تصرف من حر مالها على رعاية الطلاب وتعليمهم وأورد صاحب الطبقات أنها كانت تنفق قبل زواجها على 24 فقيراً وقد أسس ابنها الشيخ صغيرون مركزاً دينيا في (قوز العلم) في منطقة الجعليين ونشأت صلة قوية بين مدرسة قوز العلم ومدرسة الشيخ إدريس ود الأرباب الذي نهض بواجب الحركة العلمية والمعرفية في العيلفون. وقد تخرج في مدرسة قوز العلم طائفة من الفقهاء الذين نشروا العلوم الشرعية في مناطق الهلالية هذا بالإضافة إلى دور أولاد جابر في التعليم والفقه وكذلك في القضاء الشرعي.
وكان أولاد جابر يعطون إجازات علمية (شهادات) لمن يتخرجوا في مدارسهم وقد لخص الشيخ عبد الرحمن بن جابر أهداف التربية والتعليم في مملكة سنار الإسلامية في إجازته التي منحها لأحد تلامذته بعد أن أكمل تعليمه حيث نصبه: مربيا للمريدين وقدوة للمستشهدين وملجأ للفقراء والمساكين.
وتصلح هذه الإجارة لان تكون دستوراً للحركة العلمية وآية ذلك أن هدف التعليم ليس فقط التأهيل لنيل حرفة أو إشباع التطلعات الذاتية للدارس أو حشو المعلومات في ذهن الدارس ليعد في طائفة المثقفين وهذا ما يطلق عليه حديثاً مصطلح التربية المصرفية. وهي تربية عقيمة وجامدة، يكون التلميذ فيها خاملاً وبلا نشاط، ومجرد مستودع للمعلومات. أما التربية الواردة في إجازة الشيخ عبد الرحمن فتهدف لأعداد الدارس ليكون مربياً لغيره والشاهد أن التربية عملية شاقة وصعبة وتحتاج لخبرة ومراس وصبر كما يجب أن يكون المعلم قدوة، إذ لا كبير طائل لقول من غير عمل. ومفهوم القدوة مفهوم محوري في التعليم الإسلامي، لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. ولان القدوة الحسنة تحرك خصال الخير في النفس البشرية وتقضي على نوازع الهوى وتعطي العبارة الأخيرة: (ملجأ للفقراء والمساكين) المدلول الاجتماعي لحركة التعليم الإسلامي فليس هدف التعليم خلق طبقة متعالية ومنعزلة عن سواد الشعب وإنما هدف التعليم إعداد الكوادر القادرة على الاستجابة لاحتياجات الجماعات الضعيفة والمعرضة لنوازل الطوارق الاجتماعية فهؤلاء أحق الناس بالرعاية والاهتمام. ولعل هذه العبارة تصلح لأن تكون دستوراً لحركتنا التعليمية المعاصرة.
لقد أدت مدرسة أولاد جابر دورها في تمكين حركة نشر الفقه والتعليم في ديار مملكة سنار الإسلامية في ظروف ما بعد قيام المملكة مما قوى دعائمها، وآية ذلك أنها أصبحت تستند إلى حركة فكرية وعلمية تسهم في بث الوعي ونشر الدين في ربوع المملكة التي كانت جماهيرها تعاني من الجهل والأمية بل والوثنية.
وكما أسلفنا فان أساس هذه المدرسة ورائدها هو غلام الله بن عائد الذي بدأ مسيرته العلمية قبل قيام دولة سنار الإسلامية وسقوط الكيان السياسي المسيحي، وعمدت بعد ذلك إلى تركيز أقدام حركة الثقافة الإسلامية، وقد ورد ذلك في سياق الكلام عن دنقلا كمركز علمي من مراكز حركة التكييف الإسلامي التي أدت إلى نشر الثقافة الإسلامية في ربوع السودان.

رؤى الساعة 25
أبو ماضي
أن الطيور الدمى سيان في نظري والورق إن جلست هذي أغانيها
إن كانت النفس لا تبدو محاسنها في البر صار غناها من مخازيها

استراحة العدد
المجلس البلدي (بيرم التونسي)
قد أوقع القلب في الأشجان والكمد هوى حبيب يسمى المجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله والنصف اتركه للمجلس البلدي
وان جلست فجيبي لست اتركه خوف اللصوص وخوف المجلس البلدي
وماكسوت عيالي في الشتاء ولا في الصيف إلا كسوت المجلس البلدي
كأن أمي، بل الله تربتها أوصت فقالت "أخوك المجلس البلدي"
أخشى الزواج فإن يوم الزواج أتى يبقى عروسي صديقي المجلس البلدي
وربما وهب الرحمن لي ولداً في بطنها يدعيه المجلس البلدي
يا بائع الفجل بالمليم واحدة كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟

هناك تعليق واحد:

  1. الاستاذ الدكتور عثان السيد
    اتمنى ان تكون بخير واستقرار وسعادة

    رؤيا ورسالة:
    دنقلا اقدم واهم المراكز الريادية للانبعاث السناري..

    اقتباس:
    ***أهل دنقلا تفاعلوا مع سكان مصر منذ القرن الخامس عشر، واخذوا الحضارة الإسلامية وزاولوا التجارة، بما يفيد أن دنقلا قد انصهرت في بوتقة الحضارة الإسلامية نتيجة لاحتكاك دنقلا بالعباسيين والفاطميين والمماليك وغيرهم مما فرض عليها دور نقل وامتصاص الحضارة الغالبة لان المغلوب مولع بتقليد غالبه.... ***
    انتهي الاقتياس...

    حول الفقرة اعلاه نود ان نقول ان الحضارة النوبية في شمال السودان عندما حاول العرب فتحها بقوة السلاح كانت لهم بمثابة القلعة المنيعة العصية التي لم يستطيعوا التغلب عليها لانهم كانوا اصحاب حضارة والحضارة القوية تبنى على اساس دفاعي متين من المحاربين الاشداء وتميز النوبيين بالمقدرة العميقة في استخدام النبال وسموا برماة الحدق فما كان من جيش عبد الله بن ابي السرح الا ان يتقهقر امامهم في كل المعارك مع النوبيين وكان ملك النوبة في دنقلا كرياكوس وعندما استعصت دنقلا على العرب ذهب عبد الله بن ابي السرح الى الملك النوبي في دنقلا وطلب منه ان يوقع معه اتفاقية اسماها قسمة السلطة والثروة وبداء يكتبها الا ان الملك النوبي كرياكوس رفض ذلك وقال يجب ان تسمى الاتفاقية بالبقت وهي في اللغة النوبية الدنقلاوية تعني القسمة وفي هذا المعنى كتب الباحث الخير ابنعوف ما يلي:
    ***وإذا ما نظرنا إلى آراء الكتاب والمؤرخين ، نجد معظمهم يؤيدون الافتراض القائل بأن القبائل العربية السودانية تنتمي إلى أصول في الجزيرة العربية . فإذا كان الأمر بهذه البساطة ، لتحولت جميع القبائل العربية في السودان إلى قبائل رطّانة .فلماذا إذن ظلت الكلمات العربية القديمة تتداول في العامية السودانية إذا لم تكن لها أصول سودانية تحميها من الذوبان؟ ، وإذا افترضنا أن الحضارة السودانية كانت ضعيفة الأثر للحضارات الوافدة بحيث أنها لم تؤثر على ثقافاتها، فهذا يدحضه الانتشار الواسع للمفردات النوبية داخل وخارج السودان. ولا أدل على قوة ثقافة المنشأ من التسمية النوبية في اتفاقية (البقت)المشهورة التي تمت بين المسلمين الوافدين والنوبيين أهل البلاد. فكلمة (البقت ) كلمة نوبية تعني القسمة أو المعاهدة ، فقبلها العرب المهاجرون وصارت من المسلمات.*** انتهي

    لذلك لم تكن دنقلا بالنسبة الى العرب بمثابة المهزومة في الحرب ولم يتاثر النوبيين باللغة العربية والاسلام الا بعد مرور ما يقارب المائة عام من بناء عبد الله بن ابي السرح لمسجده خارج دنقلا...

    *** ملاحظة:
    ان المسجد المذكور في الاتفاقية البقت هو بنى خارج مدينة دنقلا حسب الاتفاقية وهو مبني من الحجر الاسود القطع الى مستطيلات ومربعات متراصة فوق بعضها البعض وتلك المنطقة تخلو من الاحجار السوداء واستعان العرب في بناء المسجد بالتراث النوبي في المنطقة... وبجانبة في فترة حكم الاتراك تم بناء مسجد يحمل شعار الدولة العثمانية الهلال والنجمة... وفي بداية التسعينات تم بناء مسجد جديد بالطوب الاحمر وهو الذي يصلى فيه الان... وبالمناسبة مكان المسجد يقع على مرمى حجر من منزلنا في تلك المنقطة التي تسمى ناوا الاثر حيث اننى كنت في زياره لها في شهر ديسمبر2009

    خالص التقدير والاحترام
    علي محمد احمد حاج علي

    ردحذف

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية